كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى قراءة الجر مؤلة متروكة الظاهر بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي زور وبهتان أيضًا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب «التاريخ» الكبير «والتفسير» الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب «الإيضاح للمترشد في الإمامة» لا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه، ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه «أنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائمًا، وقال: إن الناس يزعمون أن الشرب قائمًا لا يجوز، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت» وهذا وضوء من لم يحدث لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقًا، وأما ما روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على قدميه فهو كما قال الحفاظ: شاذ منكر لا يصلح للاحتجاج مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازًا؛ واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال: «سألت أبا جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبريل عليه السلام» وما روي عن أحمد بن محمد قال: «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له: لو أن رجلًا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزىء؟ قال: لا إلا بكفه كلها» إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم.
وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا «النفحات القدسية في رد الإمامية» على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح، وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة، وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل: من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض، وأيضًا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضًا لكون سنده متفقًا عليه للفريقين كما سمعت دون المسح للاختلاف في سنده، وقال بعض المحققين: قد يلزمهم بناءًا على قواعدهم أن يجوزوا الغسل والمسح ولا يقتصروا على المسح فقط، وزعم الجلال السيوطي أنه لا إشكال في الآية بحسب القراءتين عند المخيرين إلا أنه يمكن أن يدعى لغيرهم أن ذلك كان مشروعًا أولًا ثم نسخ بتعيين الغسل، وبقيت القراءتان ثابتتين في الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتًا، ولا يخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت.
هذا وأما قراءة الرفع فلا تصلح في الاستدلال للفريقين إذ لكل أن يقدر ما شاء، ومن هنا قال الزمخشري فيها: {أَنَّهَا على}، لكن ذكر الطيبي أنه لا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الإسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها، وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس، وإنما يكون كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما، وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وسمع منهم واشتهر فيما بينهم.
وقد قال عطاء: والله ما علمت أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين، وكل ذلك دافع لتفسيره هذه القراءة بقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} مغسولة أو ممسوحة على الترديد لاسيما العدول من الإنشائية إلى الإخبارية المشعر بأن القوم كأنهم سارعوا فيه وهو يخبر عنه انتهى، فالأولى أن يقدر ما هو من جنس الغسل على وجه يبقى معه الإنشاء.
وبمجموع ما ذكرنا يعلم ما في كلام الإمام الرازي قدس الله تعالى سره، ونقله مما قدمناه، فاعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن الآية هل تقتضي وجوب النية أم لا؟ فقال الحنفية: إن ظاهره لا يقتضي ذلك والقول بوجوبها يقتضي زيادة في النص، والزيادة فيه تقتضي النسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير واقع بل غير جائز عند الأكثرين، وكذا بالقياس على المذهب المنصور للشافعي رضي الله تعالى عنه كما قاله المروزي فإذن لا يصح إثبات النية، وقال بعض الشافعية: إن الآية تقتضي الإيجاب لأن معنى قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ} إذا أردتم القيام وأنتم محدثون، والغسل وقع جزاءًا لذلك، والجزاء مسبب عن الشرط فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة، وبذلك يثبت المطلوب، وقال آخرون وعليه المعول عندهم وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به فيها وهو ظاهر، وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة وإلا لما أمر به، وكل عبادة لا تصح بدون النية لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ} [البينة: 5] والإخلاص لا يحصل إلا بالنية، وقد جعل حالًا للعابدين، والأحوال شروط فتكون كل عبادة مشروطة بالنية، وقاسوا أيضًا الوضوء على التيمم في كونهما طهارتين للصلاة، وقد وجبت النية في المقيس عليه فكذا في المقيس.
ولنا القول بموجب العلة يعني سلمنا أن كل عبادة بنية، والوضوء لا يقع عبادة بدونها لكن ليس كلامنا في ذلك بل في أنه إذا لم ينو حتى لم يقع عبادة سببًا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الآية ولا في الحديث المشهور الذي يوردونه في هذا المقام دلالة على نفيه ولا إثباته، فقلنا: نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته، فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة؟ا وباقي شروط الصلاة التي لا يفتقر اعتبارها إلى أن ينوى، ومن ادعى أن الشرط وضوء هو عبادة فعليه البيان، والقياس المذكور على التيمم فاسد، فإن من المتفق عليه أن شرط القياس أن لا يكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل وشرعية التيمم متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه، نعم إن قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء وكان معنى القياس أنه لا فارق لم يرد ذلك.
وذكر بعض المحققين في الفرق بين الوضوء والتيمم وجهين، الأول: أن التيمم ينبىء لغة عن القصد فلا يتحقق بدونه بخلاف الوضوء، والثاني: أن التراب جعل طهورًا في حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه كما يستفاد من قوله تعالى: {مَاء طَهُورًا} [الفرقان: 48] وقوله سبحانه: {لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] فحينئذ يكون القياس فاسدًا أيضًا.
واعترض الوجه الأول: بأن النية المعتبرة ليست نية نفس الفعل بل أن ينوي المقصود به الطهارة والصلاة ولو صلاة الجنازة وسجدة التلاوة على ما بين في محله، وإذا كان كذلك فإنما ينبىء عن قصد هو غير المعتبر نية فلا يكون النص بذلك موجبًا للنية المعتبرة، ومن هنا يعلم ما في استدلال بعد الشافعية بآية الوضوء على وجوب النية فيه السابق آنفًا، وذلك لأن المفاد بالتركيب المقدر إنما هو وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة مع الحدث لا إيجاب أن يغسل لأجل الصلاة إذ عقد الجزاء الواقع طلبًا بالشرط يفيد طلب مضمون الجزاء إذا تحقق مضمون الشرط، وأن وجوبه اعتبر مسببًا عن ذلك، فأين طلبه على وجه مخصوص هو فعله على قصد كونه لمضمون الشرط فتأمل، فقد خفي هذا على بعض الأجلة حتى لم يكافئه بالجواب، والوجه الثاني: بأنه إن أريد بالحالة المخصوصة حالة الصلاة فهو مبني على أن الإرادة مرادة في الجملة المعطوفة عليها جملة التيمم.
وأنت قد علمت الآن أن لا دلالة فيها على اشتراط النية، وإن أريد حالة عدم القدرة على استعمال الماء فظاهر أن ذلك لا يقتضي إيجاب النية ولا نفيها، واستفاد كون الماء طهورًا بنفسه مما ذكر بأن كون المقصود من إنزاله التطهير به، وتسميته طهورًا لا يفيد اعتباره مطهرًا بنفسه أي رافعًا للأمر الشرعي بلا نية، وهو المطلوب بخلاف إزالته الخبث لأن ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه ولا تلازم بين إزالته حسًا صفة محسوسة وبين كونه يرتفع عند استعماله اعتبار شرعي، والمفاد من {لّيُطَهّرَكُمْ} كون المقصود من إنزاله التطهير به، وهذا يصدق مع اشتراط النية كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه وعدمه كما قلنا ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه كما هو المقرر فتدبر.
واختلفوا أيضًا في أنها هل تقتضي وجوب الترتيب أم لا؟ فذهب الحنفية إلى الثاني لأن المذكور فيها الواو وهي لمطلق الجمع على الصحيح المعول عليه عندهم، والشافعية إلى الأول لأن الفاء في اغسلوا للتعقيب فتفيد تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه، فيلزم الترتيب بين الوجه وغيره، فيلزم في الكل لعدم القائل بالفصل.
وأجيب بأنا لا نسلم إفادتها تعقيب القيام به بل جملة الأعضاء وتحقيقه أن المعقب طلب الغسل وله متعلقات وصل إلى أولها ذكرًا بنفسه وإلى الباقي بواسطة الحرف المشترك فاشتركت كلها فيه من غير إفادة طلب تقديم تعليقه ببعضها على بعض في الوجود؛ فصار مؤدى التركيب طلب إعقاب غسل جملة الأعضاء، وهذا نظير قولك: ادخل السوق فاشتر لنا خبزًا ولحمًا حيث كان المفاد أعقاب الدخول بشراء ما ذكر كيفما وقع.
وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول، ولأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وفيه نظر لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب ونحن لا ننكر ذلك، وقال آخرون: الدليل على الترتيب فعله صلى الله عليه وسلم فقد توضأ عليه الصلاة والسلام مرتبًا، ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به» وفيه أن الإشارة كانت لوضوء مرتب موالى فيه.
فلو دلّ على فرضية الترتيب لدل على فرضية الموالاة ولا قائل بها عند الفريقين، نعم أقوى دليل لهم قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ابدأوا بما بدأ الله تعالى به» بناءًا على أن الأمر للوجوب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأجيب عن ذلك بما أجيب إلا أن الاحتياط لا يخفى، وهذا المقدار يكفي في الكلام على هذه الآية، والزيادة على ذلك ببيان سنن الوضوء ونواقضه وما يتعلق به مما لا تفهمه الآية كما فعل بعض المفسرين فضول لا فضل، وإظهار علم يلوح من خلاله الجهل.
{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا} أي عند القيام إلى الصلاة {فاطهروا} أي فاغتسلوا على أتم وجه، وقرئ {فاطهروا} أي فطهروا أبدانكم، والمضمضة والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن لأنه سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو، وهو جملة بدن كل مكلف، فيدخل كل ما يمكن إليه إلا ما فيه حرج كداخل العينين فيسقط للحرج ولا حرج في داخل الفم والأنف فيشملهما نص الكتاب من غير معارض كما شملها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة» وكونهما من الفطرة كما جاء في الخبر لا ينفي الوجوب لأنها الدين، وهو أعم منه، وتشعر الآية بأنه لا يجب الغسل على الجنب فورًا ما لم يرد فعل ما لا يجوز بدونه؛ ويؤيد ذلك ما صح أنه صلى الله عليه وسلم خرج لصلاة الفجر ناسيًا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر فانصرف راجعًا فاغتسل وخرج ورأسه الشريف يقطر ماءًا.
{وَإِنْ كُنتُم مرضى} مرضًا تخافون به الهلاك، أو ازدياده باستعمال الماء.
{أَوْ على سَفَرٍ} أي مستقرين عليه.
{أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ} من لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض وهو متعلق بامسحوا وقرأ عبد الله فأموا صعيدًا وقد تقدم تفسير الآية في سورة النساء (43) فليراجع، ولعل التكرير ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة، ولئلا يتوهم النسخ على ما قيل بناءًا على أن هذه السورة من آخر ما نزل.